ملخص المقال
تمَّ الفتح الإسلامي للشام ومصر في سرعةٍ لم يكن يتوقَّعها أحد، وممَّا يلفت النظر موقف الإمبراطور هرقل Heraclius من الفتح الإسلامي للشام ومصر؛ لقد تغيَّر
لقد تمَّ الفتح الإسلامي للشام ومصر في سرعةٍ لم يكن يتوقَّعها أحد، وممَّا يلفت النظر موقف الإمبراطور هرقل Heraclius من الفتح الإسلامي للشام ومصر؛ لقد تغيَّر موقفه مقارنةً مع موقفة في حروبه مع الفرس، وتحوَّل من الحماس إلى الفتور، ومن الإصرار على القتال إلى الاستسلام والانسحاب.
لقد قاد بنفسه كلَّ الحملات ضدَّ الفرس في حين أنَّه تخلَّى عن قيادة الجيوش البيزنطية ضدَّ المسلمين؛ فقد حاول في أول الأمر إدارة العمليات الحربية من مدينة أنطاكية، ولكن بعد هزيمة جيوشه في معركة اليرموك استسلم وانسحب انسحابًا كاملًا قاصدًا القسطنطينية..
فما هو السبب وراء خوف الإمبراطور هرقل من مواجهة المسلمين؟
رأي المؤرخين الغربيين
يُرجع المؤرخ الإنجليزي جون هالدون John Haldon في كتابه (بيزنطة في حرب)، عملية الإنسحاب إلى :«أنَّ حاجة البيزنطيين إلى إدراك حقيقة ما حدث من تغيُّراتٍ أساسيَّةٍ في الجزيرة العربية، كانت السبب في هزيمتهم جميعًا أمام المسلمين؛ فقد شُغِلوا بالحرب فيما بينهم ولم يُراقبوا عن كثب ما كان يحدث من حولهم، ولم يفطنوا إلى أنَّ ثمة تغييرًا جوهريًّا سيعصف بكلٍّ من الإمبراطورية البيزنطية والفارسية».
وفسَّر المؤرخ الألماني كريستيان هارتمان Christian Hartmann تقاعس وضعف هرقل أمام القوة الإسلامية الفَتِيَّة إلى «أنَّ الصعوبات المستمرَّة التي رافقت حكمه دون توقُّفٍ جعلت قواه الجسديَّة والنفسيَّة تخور، وأنَّه قد أصبح فريسةً للمرض والخوف والشعور باليأس».
السبب الحقيقي!
الحقيقة أنَّ الإمبراطور هرقل كان ملمًّا بعلم أهل الكتاب يقرأ الأنجيل يعلم نبوءاته ويفهم إشاراته؛ فقد جاء في إنجيل متى ما نصه: (غَرَسَ رَبُّ بَيتٍ كَرْمًا فَسيَّجَه، وحفَرَ فيه مَعصَرَةً وبَنى بُرجًا، وآجَرَه بَعضَ الكرَّامين ثُمَّ سافَر. فلمَّا حانَ وَقتُ الثَّمَر، أَرسَلَ خَدمَه إِلى الكَرَّامينَ، لِيَأخُذوا ثَمَرَه. فأَمسَكَ الكرَّامونَ خَدَمَه فضرَبوا أَحدَهم، وقتَلوا غيرَه ورَجَموا الآخَر. فأَرسَلَ أَيضًا خَدَمًا آخَرينَ أَكثرَ عَددًا مِنَ الأَوَّلينَ، ففَعلوا بِهِم مِثلَ ذلِك. فأَرسَلَ إِليهِمِ ابنَه آخِرَ الأَمرِ وقال: «سيَهابونَ، ابْني». فلَمَّا رَأَى الكرَّامونَ الابنَ، قالَ بَعضُهم لِبَعض: «هُوَذا الوارِث، هَلُمَّ نَقتُلْهُ، ونَأخُذْ مِيراثَه». فأَمسَكوهُ وأَلقَوهُ في خارِجِ الكَرْمِ وقتَلوه. فماذا يَفعَلُ رَبُّ الكَرْمِ بِأُولئِكَ الكَرَّامينَ عِندَ عَودَتِه؟ «قالوا له:» يُهلِكُ هؤُلاءِ الأَشرارَ شَرَّ هَلاك، ويُؤجِرُ الكَرْمَ كَرَّامينَ آخَرينَ يُؤَدُّونَ إِليهِ الثَّمَرَ في وَقْتِه”). (متَّى:21:33-41).
في هذا النص يتنبَّأ الإنجيل بسقوط الأراضي البيزنطيَّة في أيدي المسلمين لأنَّ البيزنطيُّون قد ظلموا رعاياهم وعاثوا في الأرض فسادًا دون أن يسمعوا لنداءات المخلصين من رجال الدين، وليس بعد الظلم إلَّا الزوال، وبالتالي توقَّع هرقل النهاية بأنَّ ربَّ العمل (الله) يُسلِّم الكرم (شجر العنب، والمقصود الأرض والسيادة) إلى عمَّالٍ آخرين (المسلمين)، لأنَّهم أهل عدل وسيحكمون بمشيئة الله..
وقد فهم هرقل إشارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم له في رسالته له: «فإن توليت فإنَّ عليك إثم الأريسيين (بمعنى الأكَّارين أو الفلاحين)»؛ فاضطرب هرقل وتغيَّر وجهه وقال في نفسه: كيف علم محمد (صلى الله عليه وسلم) هذا بما جاء به المسيح عليه السلام.
يقول أبو سفيان رضي الله عنه وقد شاهد هذا الخوف في وجه هرقل وحاشيته: «فلمَّا قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلتُ لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة (أي النبي صلى الله عليه وسلم)؛ إنَّه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلتُ موقنًا أنَّه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام».
ومن خلال هذا النص وصدق إجابات أبي سفيان -وهو على الشرك وقتئذٍ- لأسئلة هرقل عن أحوال النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تأكَّد هرقل بأنَّ محمد بن عبد الله رسولٌ مؤيَّدٌ من قِبَل الله، وأنَّ الله سبحانه وتعالى وعده بأن يُظهر دينه وبنصر المؤمنين..
هنا مكمن القوَّة التي جعلت هرقل ربَّما لا ييأس فقط بل يخاف ويرهب المسلمين، وقد أمرهم الله تعالى بشنَّ الحرب النفسيَّة ضدَّ الجبابرة والطغاة ممَّن يتَّخذون الحرب وسيلةً للتأثير في النفس البشريَّة، فيقول الله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
وبالتالي يقع تأثير الحرب النفسية بلا شَكٍّ على النفس قبل أيِّ شيءٍ آخَر لقوله تعالى: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].
وهناك حديـثٌ أورده البخـاري في صحيـحه بسنده أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ...».
وإذا جمعنا نبوءة الإنجيل والآيتين وهذا الحديث، وطبَّقناهما على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وفتوحاتهم، فمعني هذا أنَّ الرعب قد أصاب هرقل ولذلك لم يستطع المقاومة.
لهذه الأسباب نجد أنَّ الإمبراطور هرقل فقد الأمل تمامًا بإمكانيَّة الانتصار على المسلمين وضياع الشام لذا وقف الإمبراطور هرقل على ربوةٍ تطلُّ على سوريا الجميلة، والدمع يترقرق في عينيه يُخاطب سوريا قائلًا: «عَلَيْكِ السَّلَامُ يَا سُورِيَا سَلَامًا لَا اجتِمَاعَ بَعْدَهُ، إلَّا أن أُسَلِّمَ عَلَيْكِ تَسْلِيْمَ المـُفَارِق، وَلَا يَعُوْدَ إِلَيْكِ رُومِيٌّ أَبَدًا إلَّا خَائِفًا حَتَّى يُوْلَدُ المـُوْلُوْدُ المـَشْئومُ، وَيَا لَيْتَهُ لَم يُوْلَد، مَا أَحْلَى فِعْلُهُ، وأَمَرَّ عَاقِبَتُهُ عَلَى الرُّومِ!».
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- اعرف نبيك .. 7 كتب لا غنى عنها في السيرة النبوية
- نص خطاب جعفر بن أبي طالب مع النجاشي ملك الحبشة
- لماذا بكى موسى عندما رأي النبي في الإسراء والمعراج؟
- معنى كلمة لإيلاف قريش
- قصة ميلاد عيسى ابن مريم عليه السلام
التعليقات
إرسال تعليقك