ملخص المقال
عندما كنت أبحث في تلك المواقف تذكرت ما كتبه الأديب العالمي الأسكتلندي «آرثر كونان دويل» في سلسلته "المحقق شارلوك هولمز"، فمع براعتها لم أجد فارقًا بين ما
الإمام الشافعي رحمه الله
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف. يلتقي الشافعي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في جَدِّه عبد مناف، فالإمام الشافعي (رحمه الله) قرشي أصيل.
وُلِد بغزَّة في شهر رجب سنةَ (150هـ= أغسطس 767م)، ولما مات أبوه انتقلت به أمُّه إلى مكة؛ لئلَّا يضيع نَسَبُه، ثم تنقَّل (رحمه الله) بين البلاد في طلب العلم.
وكان الإمام الشافعي (رحمه الله) رجلًا طويلًا، حسن الخلق، محبَّبًا إلى الناس، نظيف الثياب، فصيح اللسان، شديد المهابة، كثير الإحسان إلى الخلق، وكان يستعمل الخضاب بالحمرة (الحناء) عملًا بالسنة، وكان جميل الصوت في القراءة.
لقد عُرف الإمام الشافعي بالنجابة والذكاء والعقل منذ أن كان صغيرًا، وشهد له بذلك الشيوخ من أهل مكة؛ وقال العلماء فيه رحمه الله: "لو وُزِن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه".
ولمعرفة المزيد عن سيرة الإمام الشافعي رحمه الله طالع مقال: «الإمام الشافعي» على موقع قصة الإسلام.
فراسة الإمام الشافعي رحمه الله
وللإمام الشافعي مواقف كثيرة مشهورة تدل على فراسته، نذكر منها أشهرها:
مع رجل يبحث عن عبده:
سمعت المزني يقول: كنت مع الشافعي -رحمه الله- في المسجد الحرام إذ دخل رجلٌ يدور بين النُّوَّام.
- فقال الشافعي للربيع: قم فقل له: ذهب عنك عبد أسود مصاب بإحدى عينيه؟
- قال الربيع: فقمت إليه فقلت له ما قال الشافعي.
- فقال: هذا عبدي. فقلت له: تعال إلى الشافعي.
- فتقدم إلى الشافعي فقال: هذا عبدي. فقال له: مُرَّ فإنَّه في الحَبس، فمرَّ الرجل فوجده في الحَبْس!
- فقال المزني: فقلنا له: أخبرنا فقد حَيَّرْتَنا.
- قال: نعم، رأيت رجلًا دخل من باب المسجد يدور بين النُّوَّام، فقلتُ: هاربًا يطلبه، ورأيته يجيء إلى النُّوَّام السُّودان، فقلت: عبد أسود، ورأيته يجيء إلى ما يلي العين اليسرى، فقلت: مصاب بإحدى عينيه.
- فقلنا: فالحبس، كيف علمته؟!
- فقال: تأوَّلْتُ حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في الحبش: إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا شربوا وزَنَوْا[1]»، فتأوَّلت أنَّه فعل إحداها، فكان كذلك[2].
وفي هذا الموقف الرائع من الإمام الشافعي ما يدلُّ على فراسة الإمام العالية، واستنباطه البارع، وفهمه الثاقب؛ وكيف لا وهو الذي قال: "خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها، وجمعتها"[3]. فرحم الله الإمام الشافعي كان حُجَّةً عظيمةً في كلِّ علم، لا يكاد يمرُّ عليك علمٌ من العلوم الشرعيَّة إلَّا وتجد له فيه باعًا.
والمؤكَّد -أيضًا- أنَّ الإمام رحمه الله لم يثبت لديه وقتها ضعف الحديث لاعتبارات كثيرة قد تمنع من ذلك، ولا يعيبه أو غيره هذا، فقد يتغيَّر المنهج العلمي أو يتغيَّر رأي العالم في مسألةٍ أو حديثٍ بتوافر معلوماتٍ جديدةٍ لم تكن وصلت إليه من قبل وهذا هو المشهور عن العلم والعلماء، والشافعي خير دليل على ذلك في قديمه وحديثه في الفقه، فهذا مدحٌ له ولهم لا ذم؛ فإنَّهم حين يعرض إليهم الجديد لا يتوانون لحظةً عن تخطأة أنفسهم وتصحيح ما وقعوا فيه من قبل، وليس هذا إلا تجرُّدٌ من كل هوى وخوفٌ من الله.
مع الجاحظ:
كان الشافعي يفتي في الجامع ببغداد فجاء «عمرو بن بَحر الجاحظ» فسأله فقال: يا أبا عبد الله، ما نقول في رجلٍ خصى ديكًا؟
فقال الشافعي: أرأيته؟ وأراك أبا عثمان. فَعَلِمَه بمسألته. وما كان يعرفه بعينه.
والمشهور عن الجاحظ أنه كان بجانب براعته في الأدب واللغة وهو فيهما بحرٌ وعَلَمٌ لا يُضاهى، فكان أيضًا متفكِّها متندرًا من أشد الناس ظرفًا في زمانه، وهو من أوائل من أفردوا كتبًا لما يعر فالآن بالأدب الساخر مثل كتابه الرائع "البخلاء"، ولشدة فراسة الإمام الشافعي رحمه الله عرفه فقط من سؤاله.
الشافعي وتوقعاته لمستقبل لتلاميذه:
وهو من أشد مواقف الشافعي غرابة ودليل على قوة حدسه وبراعة فراسته؛ والموقف حكاه أكثر من واحد من تلاميذه الذين حضروه وننقله من طريق الربيع بن سليمان المرادي..
حيث قال الربيع: دخلنا على الشافعي عند وفاته أنا والبويطي والمزني ومحمد ابن عبد الله بن عبد الحكم.
فنظر إلينا الشافعي ساعةً فأطال ثم التفت إلينا..
- قال: "أمَّا أنت يا أبا يعقوب فتموت في حديدك".
- "وأما أنت يا مزني فستكون لك بمصر هَنَاتٌ وهَنَات، ولتدركن زمانًا تكون أقيس أهل ذلك الزمان".
- "وأمَّا أنت يا محمد فسترجع إلى مذهب أبيك (يقصد مذهب الإمام مالك رحمه الله).
- "وأمَّا أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب".
قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة. قال الربيع: فكان كما قال.
فتلك مواقف قليلة جدًّا عن فراسة الإمام الشافعي رحمه الله، والمتتبع لسيرته ومواقفه يجب الأدهش والأعظم من هذا خاصة في مسائل الفقه والأخص في مسائل الطلاق وغرائبها أو غيرها، وكم نحن أحوج اليوم لتتبع سير هؤلاء العمالقة في العلم والأدب ليس في فكاهاتهم وفراستهم فقط بل علمهم -أيضًا-، فنحتاج اليوم بأن نقتدي بهؤلاء العظماء ونلتمس طريقهم نحن وأبنائنا للنجو من غمار هذه الدنيا..
وكذلك لنفتخر بتراثنا الإنساني الجليل ونعرف أن لدينا أفضل وأعرق مما عند من نلهث وراء اتباعهم اليوم من الغرب وممن يريد أن تندثر حضارتنا ونصبح أضحوكة ومجرد تابعين لهم بلا جذور أو أصل نرتبط به..
على سبيل المثال عندما كنت أبحث في تلك المواقف التي ذكرتها آنفًا تذكرت -وأنا من محبي أغلب أصناف الأدب والأدباء- ما كتبه الأديب العالمي البارع بحق الأسكتلندي «آرثر كونان دويل» في سلسلته الأشهر "المحقق شارلوك هولمز"، فمع براعتها لم أجد فارقًا بين ما جسَّدَه الأديب في شخصية المحقق الشهير وبين الإمام الشافعي رحمه الله إلَّا أنَّ الإمام كان حقيقةً لا خيالًا! وأنَّ الإمام كان أقدم من ذلك الخيال بأكثر من 1100 سنة تقريبًا، فهل هناك أروع من هذا!
للاستزادة طالع المصادر الآتية:
- البيهقي: مناقب الشافعي.
- ابن الكلبي: جمهرة أنساب العرب.
- الذهبي: العبر في خبر من غبر.
- الصفدي: الوافي بالوفيات.
- ابن الجوزي: صفة الصفوة.
- عبد الغني الدقر: الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر، ط دار القلم.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء.
- أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي العجلوني: كشف الخفاء ومزيل الإلباس.
[1] انظر: البزار: كشف الأستار (2836)، والطبراني: المعجم الكبير، (12213)، 11/428. وقال الألباني في «السلسلة الضعيفة» (728): موضوع.
قال الإمام ابن القيم في «المنار المنيف» ص101: "أحاديث ذم الحبشة والسودان كلها كذب"، وأقره الشيخ ملا علي القاري في «موضوعاته» ص332.
[2] البيهقي: مناقب الشافعي، تحقيق: السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث – القاهرة، ط1، 1390هـ - 1970م، 2/135.
[3] البيهقي: مناقب الشافعي، 2/134.
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- قصة المـَثَل العربي الشهير .. «سَبَقَ السَّيْفُ العَذَلَ»
- خريطة بأسماء وأماكن مدن الأندلس القديمة
- حوار الصحابي ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس .. مشهد من ماضٍ مجيد
- نص خطاب جعفر بن أبي طالب مع النجاشي ملك الحبشة
- قصة الكرماء الثلاثة .. أجود أهل زمانهم!
التعليقات
إرسال تعليقك