ملخص المقال
تحدَّث القرآن الكريم عن عيسى عليه السلام حديثًا واضحًا؛ عن مولده، وعن معجزاته، وعن دعوته، وعن الخصائص التي أكرمه الله تعالى بها.. فما قصة مولده عليه
تحدَّث القرآن الكريم عن عيسى عليه السلام حديثًا واضحًا؛ عن مولده، وعن معجزاته، وعن دعوته، وعن الخصائص التي أكرمه الله تعالى بها، وعن جهاده من أجل إعلاء كلمة الحق، وصبره عن الأذى، وعن الشبهات الباطلة التي أثارها أعداؤه حوله، وعن بشارته بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعن تكريم الخالق له في الدنيا والآخرة، وقبل الدخول في تفاصيل قصَّة هذا الرسول المبارك نذكر ما جاء في فضله من أحاديث نبوية:
روى البخاري ومسلم رحمهما الله [1] عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
ورويا [2] -أيضًا- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قوله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ [3] لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ".
وفي صحيح البخاري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟! قَالَ: كَلَّا، وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللهِ، وَكَذَّبْتُ عَيْنِي"[4]. أي: صدَّقتُ من حلف بالله، وكذَّبت نفسي فيما ظهر لي؛ لاحتمال أنَّه محقٌّ في ذلك، وهذا يدلُّ على صفاء نفس عيسى عليه السلام، وعلى عمق إيمانه، وتعظيمه لخالقه.
وبداية الحديث عن قصة هذا الرسول الكريم بقصة مولده عليه السلام، تلك القصة العجيبة المعجزة، وتفصيلها فيما يأتي:
وردت قصة مولد عيسى عليه السلام في سورة مريم، الآيات (16-34)، وذُكر طرف منها في سورة آل عمران، وذلك قوله سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. ومجمل أحداث مولده عليه السلام وَفق التالي:
تفاصيل قصة مولد نبي الله عيسى عليه السلام
قصة مولد عيسى عليه السلام قصةٌ عجيبة، ووجه العجب فيها هو ولادة أمِّه له من غير زوج!
وإذا نحن غضضنا الطرف عن حادث خلق الإنسان أصلًا، فإنَّ حادث ولادة عيسى ابن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كلِّه..
فالإنسانية لم تشهد خلق نفسها، وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها! لم تشهد خلق الإنسان الأوَّل من غير أبٍ وأم، وقد مضت القرون بعد ذلك الحدث العجيب والمثير والمعجز؛ فشاءت الحكمة الإلهية أن تُبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب، على غير السُّنَّة التي جرت منذ وُجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر، ثم تظلُّ في سجلِّ الحياة الإنسانية بارزةً فذَّةً تتلفَّت إليها الأجيال، إن عزَّ عليها أن تتلفَّت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها الإنسان!
لقد جرت سنة الله في هذه الحياة على التناسل والتزاوج، ونسوا الحادث الأول، حادث وجود الإنسان؛ لأنه خارج عن القياس، فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم عليه السلام؛ ليُذكِّرهم بقدرته التامَّة وإرادته الكاملة، وأنَّها لا تحتبس داخل السنن التي تختارها.
ولم يتكرَّر حدث عيسى عليه السلام؛ لأنَّ الأصل هو أن تجري السُّنَّة التي وضعها الله وَفق ما وضعها تعالى، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره بحسب اختياره سبحانه.
وهذا الحادث يكفي ليبقى أمام أنظار البشرية مَعْلَمًا بارزًا على قدرته سبحانه ومشيئته، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس، {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} [مريم:21].
ونظرًا إلى غرابة الحدث وضخامته، فقد صعب على فِرَقٍ من الناس أن تتصوَّره على طبيعته، وأن تُدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تُضفي على عيسى عليه السلام صفات ألوهيَّة، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتتغافل عن الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، وهي إثبات القدرة الإلهية.
والقرآن الكريم في سورة مريم يقصُّ كيف وقع هذا الحدث العجيب، ويُبرز دلالته الحقيقية، وينفي عنه تلك الخرافات والأساطير.
والسياق الذي وردت فيه القصة، يخرجها في مشاهد مثيرة، حافلة بالعواطف والانفعالات، التي تهزُّ من يقرؤها هزًّا، كأنَّما هو يشهدها عن كثب، ويُعاينها عن واقع!
مشاهد ولادة عيسى عليه السلام كما يصورها القرآن الكريم
فالمشهد الأول من القصة يُصوِّر فتاة عذراء، قدِّيسة، وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد، لا يَعرف عنها أحدٌ إلا الطُهر والعفَّة، ولا يُعرَف عن أسرتها إلَّا الطيبة والصلاح. ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأنٍ من شئونها، التي تقتضي التواري من أهلها، والاحتجاب عن أنظارهم.
وها هي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها، ولكنَّها تُفاجأ برجلٍ مكتملٍ سويٍّ يقطع صفو خلوتها: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17]، وها هي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة، يفجؤها رجلٌ في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به، وتستنجد، وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله، والتحرُّج من رقابته في هذا المكان الخالي: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]..
وها هو ذا الرجل التقيُّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، فيُخاطبها بقوله: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا} [مريم: 19]، وليتمثَّل الخيال مقدار الفزع والخجل، وهذا الرجل السوي، الذي لم تثق بعدُ بأنَّه رسول ربها، فقد تكون حيلة هاتك، يستغلُّ طيبتها، يُصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنَّه يُريد أن يهب لها غلامًا، وهما في خلوة!
غير أنَّها تُدركها شجاعة الأنثى المهدَّدة في عِرضها! فتسأل في صراحةٍ وثبات: كيف يكون هذا؟ فما تعرف هي بعدُ كيف يهب لها غلامًا؟ لكن ما خفَّف من روع الموقف ما قاله لها: {إنما أنا رسول ربك}، لكن كيف يكون هذا؟ وهي عذراء، لم يمسسها بشر، وما هي بغيٌّ، فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام!
بيد أنَّ هذا الأمر الخارق، الذي لا تتصوَّر مريم عليها السلام وقوعه، هيِّنٌ على الله؛ فأمام القدرة التي تقول للشيء {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، كلُّ شيءٍ هيِّن، سواءٌ جرت به السُّنَّة المعهودة، أم جرت بغيره.
وجبريل عليه السلام قد أخبرها بأنَّ هذا هيِّنٌ عليه سبحانه، وأنَّه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آيةً للناس، وعلامةً على وجوده وقدرته وإرادته، ورحمةً لبني إسرائيل أوَّلًا، وللبشريَّة جميعًا، بإبراز هذا الحدث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه.
وتمضي القصَّة فتذكر معجزة كلام عيسى عليه السلام وهو في المهد، وما أنطقه الله به عند ولادته، يقول سبحانه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [30-33].
هكذا يُعلن عيسى عليه السلام عبوديَّته لله، فليس هو ابنه كما يدَّعي فريقٌ من الناس، وليس هو إلهًا كما يدَّعي فريقٌ ثان، وليس هو ثالث ثلاثة كما يدَّعي فريقٌ آخر؛ بل هو نبيٌّ مبارك، أوصاه الله بالصلاة والزكاة مدَّة حياته، وأوصاه بالبرِّ بوالدته، والتواضع مع عشيرته، وله حياةٌ محدودة الأمد، وهو يموت ويُبعث كسائر الخلق، وقد قدَّر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم مولده، ويوم موته، ويوم بعثه.
وينتهي ما يقوله عيسى عليه السلام، بإعلان ربوبية الله له وللناس، ودعوته إلى عبادة الله الواحد بلا شريك: {وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، فلا يبقى بعد شهادة عيسى عليه السلام وشهادة قصَّته مجالٌ للأوهام والأساطير، ولا للشكِّ والأباطيل.
وقد ورد في سورة آل عمران ما يؤكد قصة مولد عيسى عليه السلام كما وردت في سورة مريم، وذلك قوله سبحانه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 45-46].
لقد شاء الله أن يخرق قاعدة الإنجاب والتناسل في فردٍ من بني الإنسان، فيُنشئه نشأةً قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى -الخلق من تراب-، وإن لم تكن مثلها تمامًا، فكان خلقه من أُنثى فقط..
تتلقَّى النفخة التي تُنشئ الحياة ابتداء، فتنشأ فيه الحياة! وقد بشَّرت الملائكة مريم بكلمةٍ من الله {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 45]، فتضمَّنت البشارة نوعه، وتضمَّنت اسمه ونسبه، وظهر من هذا النسب أنَّ مرجعه إلى أمِّه..
ثم تضمَّنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45]، كما تضمَّنت معجزة تُصاحب مولده: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ}، ولمحة عن مستقبله: {وَكَهْلًا}. ووصفته والموكب الذي ينتسب إليه أنه من {الصَّالِحِينَ}.
[1] صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة آل عمران، (4274)، 4/1655، واللفظ له. وصحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام، (2366)، 4/1838.
[2] صحيح البخاري: كتاب الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها/ مريم 16- 49، (3258)، 3/1270. وصحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام، (2365)، 4/1837.
[3] أولاد علَّات: هم الأخوة لأب واحد من أمهات مختلفة؛ والمعنى أن شرائعهم متفقة من حيث الأصول وإن اختلفت من حيث الفروع حسب الزمن وحسب العموم والخصوص. انظر: صحيح البخاري، تعليق د. مصطفى البغا 3/1270.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة، (3444)، 8/551.
* المصدر: إسلام ويب.
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- بالصور | أغرب 9 اكتشافات أثرية في تاريخ البشرية
- حوار الصحابي ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس .. مشهد من ماضٍ مجيد
- حقيقة عيسى العوام وأكذوبة فيلم صلاح الدين
- ألقاب أم المؤمنين عائشة
- قصة ساعة هارون الرشيد التي أثارت الجدل في مونديال قطر
التعليقات
إرسال تعليقك