ملخص المقال

لم يكن الحكم في مكة مركزيًّا دكتاتوريًّا؛ بمعنى أنها لم تكن تعرف الحاكم المطْلق، ولم تكن مملوكة لفرد ولا لقبيلة؛ بل كان يحكمها مجلسٌ كبير يضمُّ عشرة نواب يمثِّلُون عشر قبائل، فهو يُشبه -إلى حدٍّ ما- الحكم الديمقراطي([1]).
وقد أفادت كثرةُ موازين القوى في مكة الدعوةَ الإسلامية إفادة كبيرة؛ فقد كانت هناك بعض القوانين الوضعية في مكة، استفاد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يتنازل عن شيء من دينه، ولا من عقيدته، ليُعَلِّمنا أنَّ المسلم الواعي الفاهم يستطيع أن يستفيد من هذه القوانين ما دام يحافظ على دينه، وهذا يردُّ على غير الفاهمين للسيرة النبوية الذين يقولون: نحن لا نتحاكم لقانون وضعي مطلقًا، وهذا الكلام على إطلاقه ليس صحيحًا، فنحن لا نتحاكم لقانون وضعي إذا تعارض مع شرع الله ، فإذا لم يكن ثَمَّ تعارض فيمكن عندها التعامل به.
لقد تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم -على سبيل المثال- بقانون «الإجارة»، وهو يقضي أنه إذا أعلن أحد زعماء القبائل، أو كبار الأشراف، حمايته لشخص ما فإن جميع أهل مكة لا يستطيعون إيذاءه، وإلا اعتُبر هذا خرقًا للقانون، ومنشأ هذا القانون أن الحكم في مكة -كما ذكرنا- ليس لعائلة معينة، أو فرد محدَّد، وبالتالي وُجِدَ هذا القانون لإعطاء صلاحيات مماثلة لكل القبائل المشترِكة في حكم البلد، ولو كان الحكم مركزيًّا مثل فارس والروم ما تمَّت هذه الإجارة؛ لأن الأمور كلها في هذه الإمبراطوريات في يد ملكها، كسرى أو قيصر، ولا يملك أحد هناك أن يعترض على أمر الملك، ولا يُوجد هناك مُجير من قرار أخذه الحاكم الأوحد؛ وهكذا استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قانون الإجارة مع أنه قانون وضعي كما ذكرنا، وسيدخل به بعد وفاة عمِّه أبي طالب في جوار المطعم بن عدي المشرك من بني نوفل ليحميه، وسيدخل به كذلك أبو بكر الصديق في جوار ابن الدغنة المشرك من الأحابيش([2])، وسيدخل به كذلك عثمان بن مظعون الجمحي في جوار الوليد بن المغيرة المخزومي المشرك.
وتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك بقانون «القبليَّة» في ظل نظام الحكم في مكة، وهو قانون وضعي أيضًا؛ حيث قامت قبيلة بني هاشم بحمايته عصبيةً له، خاصةً أثناء حياة أبي طالب، مع كونهم جميعًا -بما فيهم أبو طالب نفسه- على الشرك.
وقَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بفكرة الأحلاف مع المشركين إذا كان الحلف يهدف إلى أمر نبيل، ولا يتعارض مع الدين الإسلامي؛ فقد روى أحمد عن عبد الرحمن بن عوف، عن النَّبيِّ r قال: «شَهِدْتُ غُلامًا مَعَ عُمُومَتِي حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ([3])، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ»([4]). وبعد صلح الحديبية حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة خزاعة، وكانت على الشرك.
إذن استفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعدُّد موازين القوى، ومن قوانين المجتمع الوضعية؛ ما دامت لا تتعارض مع الدين والشرع والعقيدة، وهي حكمة ما كانت لتظهر في بلدٍ له حكم دكتاتوري كفارس والروم.
المصدر..
د.راغب السرجاني - التاريخ العسكري والسياسي في الجزيرة العربية
[divider]
([1]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 24/118
([2]) الأحابيش: الجماعات من الناس اخْتلفت أجناسهم، وأحابيش قريش جماعة من قريش وكنانة وخزاعة تحالفوا عند جبل حبشي بأسفل مكة.
([3]) المطيبون: خمس قبائل؛ وهم: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو تيم، وبنو زهرة، وبنو الحارث.
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- لا حياة لمن تنادي .. قصيدة وموعظة
- حوار الصحابي ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس .. مشهد من ماضٍ مجيد
- نص خطاب جعفر بن أبي طالب مع النجاشي ملك الحبشة
- تعرف على الحوار الذي أسلم بسببه أهل عمان جميعًا
- بوابة عشتار .. آثار العراق بين النهب والتدمير
التعليقات
إرسال تعليقك