ملخص المقال

د. راغب السرجاني يكتب: مواقف من حياة الإمام المختار المهدي
فقدت الأمة الإسلامية في يوم الأحد 14 فبراير 2016 الدكتور محمد المختار المهدي رئيس الجمعية الشرعية، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، عن عمر يناهز 77 عاما، وذلك بعد صراع مع المرض.. وقد كتب فضيلة الدكتور راغب السرجاني المفكر والمؤرخ الإسلامي مقالا يرثي فيه العالم الجليل المختار المهدي نشر على موقع قصة الإسلام بعنوان: ورحل الإمام المختار .. جاء فيه:
روى الدارمي والبيهقي عن الْحَسَنِ: أنه قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ «مَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ». وصدق عبد الله بن مسعود، فإن الأمة تعاني كثيرًا بفقد عالمٍ من علمائها، فانتشار الجهل الناتج عن موت العلماء نذيرٌ باقتراب الساعة، وقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ -وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ- حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ».
وقد فَسَّر رسول الله قبض العلم بموت العلماء؛ فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
ولقد ثُلِمَ الإسلام بفقد العالِم الجليل محمد مختار المهدي؛ فقد كان عالمـًا من طراز خاص جدًّا، بحيث يمكن القول: إنه لا يتكرَّر كثيرًا على مدار السنين والعقود، وقد أثرى الأُمَّةَ الإسلامية بعلمه كما أثراها بأخلاقه، وكان من أولئك الصفوة الذين أخذوا بحظٍّ وافر من ميراث الأنبياء؛ روى الترمذي وأبو داود عن أَبِي الدَّرْدَاءِ أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
ولقد لَمَسْتُ بنفسي طرفًا من أخلاق الإمام الراحل جعلتني أنبهر به تمام الانبهار؛ حيث إن هذه الأخلاق صارت عزيزة في زماننا، وغدا الذي يتحلَّى بها فريدًا بين أقرانه وأبناء زمانه.
لَمَسْتُ في الإمام المختار خُلُقَ التواضع، فكان لا يعرض رأيًا من آراءه إلا وهو يُعْلِن تقديره لآراء العلماء الآخرين؛ بل يقبل ببساطة أن يترك رأيه ويأخذ برأي غيره إن بدا له صحة الدليل، وكان لا يتردد في أن يسأل مَنْ هو أقل منه علمًا، ولقد شَرَّفني أكثر من مرة بسؤالي عن بعض المسائل في السيرة النبوية والتاريخ، مع إنني لست إلا تلميذًا من تلامذته، وما كنت أرى اتصاله إلا نوعًا من الاحترام لغيره، ولونًا من ألوان التواضع صار فريدًا للغاية.
ولَمَسْتُ في الإمام المختار هدوء الطبع، ودماثة الخلق، وخفض الصوت، وعدم التشنج أو العصبية، ولم يكن من أولئك العلماء الذين يُفَرِّقون الناس من حولهم بشدِّة طباعهم، وغلظ أخلاقهم؛ بل كان دائم الابتسام، كثير الترحاب، وكنتُ أعجب من رؤية رسائله على الهاتف يهنئني بعيد الفطر أو الأضحى، وأقول في نفسي: كيف يتذكر مع كثرة انشغالاته أن يرحِّب بالصغير قبل الكبير، وأن يهتم بالبعيد مع القريب.
ولَمَسْتُ في الإمام المختار غَيْرَة غير متكلَّفة أو مفتعلة على الأمة الإسلامية، وقد دعاني فضيلته إلى مؤتمر في الجمعية الشرعية للحديث عن الغزو الصهيوني للبنان في عام 2006، ولاحظتُ تأثره وحزنه رحمه الله، وكان يقول: إن الاختلاف الذي بيننا وبين الشيعة لا يمكن أن يجعلنا نتراخى في الوقوف إلى جوار إخواننا في الإسلام في لبنان أو في غيرها من البلاد، ورأيت غيرته -أيضًا- على فلسطين، وقد دعاني -أيضًا- إلى إعطاء أئمة الجمعية الشرعية دورة عن تاريخ فلسطين، مؤكِّدًا أن الأمة لن تُبصر طريقها إلا بمعرفة تاريخها، ورأيتُ غيرته كذلك على المسلمين في إفريقيا وآسيا، حيث كان يحدثني عن قوافل الخير التي تجوب الأقطار المختلفة بحثًا عن مسلمٍ يحتاج إلى عون، أو غير مسلم يحتاج إلى هداية.
ولَمَسْتُ في الإمام المختار جانب العَمَليَّة والواقعية والهمَّة العالية، فلم يكن يهتم بالتأصيل النظري دون التطبيق الفعلي؛ بل كان يتكلم قليلًا ويعمل كثيرًا، ويكفي أن تتعرف على بعض أعماله لتُدرك أنه لم يكن منعزلًا في مكتبه للتأليف والبحث؛ إنما كان مشاركًا بفعالية كبيرة في عدد هائل من المهام الكبرى، فهو يتابع رحلات الجمعية الشرعية إلى بلاد العالم المختلفة لتوصيل المعونات والإغاثة، ويتابع إصدار وتحرير مجلة التبيان، ويتابع تطوير وتحديث مناهج معاهد إعداد الدعاة، ويسافر إلى مؤتمرات عالمية للدعوة والتعليم، فهو تارة في ماليزيا، أو طاجيكستان، أو إندونيسيا، وأخرى في أميركا، أو بريطانيا، أو التشيك، وثالثة في الجزائر، أو السودان، أو لبنان، ورابعة في غيرها هنا وهناك، وفوق هذه الأسفار والأعمال يكتب ويؤلِّف ويُدَرِّس بهمَّة عالية، وكفاءة نادرة.
ولَمَسْتُ في الإمام المختار سعة علم رائعة، وتنوُّعًا في العلوم يصعب أن تجد مثيلًا له، فله مصنفات دقيقة في مجال تخصصه، وهو علوم اللغة العربية؛ مثل كتاب النحو الميسر، وكتاب الصرف الميسر، وكتاب دراسات عربية في تراثنا الأصيل، وكتاب دقائق التصريف، وكتاب الأحرف والقراءات القرآنية في ضوء الدرس اللغوي، وكتاب تقعيد النحو بين الشعر العربي والنص القرآني، وغير ذلك من الكتب المتخصصة في اللغة العربية وفنونها، ومع ذلك فهو لم يكتفِ بهذه الدراسات العميقة إنما أسهم بقوة في التأليف في أكثر من مجال من مجالات العلوم الإسلامية، فصدر له في السيرة النبوية كتاب دروس وعبر من سيرة خير البشر، وفي الفقه كتاب فقه العبادات، وهو تلخيص لكتاب الدين الخالص للإمام السبكي رحمه الله، وكتاب الحج مناسك ومنافع، وفي التاريخ كتاب جهود الإمام أبي حنيفة في الدعوة، وفي الأسرة كتاب الأسرة في ميزان الإسلام، وفي التفسير كتاب تيسير معاني القرآن، وكتاب حقائق قرآنية وردود على الشبهات، وفي الدعوة كتاب القصة والأمثال في القرآن زادٌ للدعاة، وفي الفكر الإسلامي كتاب في مواكبة الأحداث، وما كل هذه الكتب إلا أمثلة، وأنا لم أتعمد الحصر، فإنتاجه -رحمه الله- غزير ونافع.
ولَمَسْتُ في الإمام المختار ذكاء فطريًّا، وفطنة لافتة، وهذا -إلى جوار أدبه وحلاوة لسانه- هو السرُّ في حسن علاقته بكل العلماء والتيارات الإسلامية المختلفة في مصر والعالم الإسلامي؛ فالكلُّ صديق له، والجميع يتبادل معه التوقير والاحترام، وليس له أعداء لا من قريب ولا من بعيد، وتعاونه ظاهر مع المؤسسات الرسمية والأهلية، والثناء عليه غزير من شتى علماء الأمة، وليس هذا الإجماع إلا لعدد قليل من العلماء، فطوبى له شهادة أهل الخير له بالخير.
إن هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، فنحن نتكلم عن قامة كبيرة، وعلامة بارزة في تاريخ الأمة الإسلامية..
إنه العالِم الذي رأس قسم اللغة العربية بكلية الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة الأزهر من عام 1983، وهو العالِم الذي رأس الجمعية الشرعية من عام 2002 إلى آخر عمره، وهو العالِم الذي تشرفت بعضويته عدة مجالس مهمة في العالم الإسلامي؛ مثل مجمع البحوث الإسلامية، وهيئة كبار العلماء بالأزهر، ومجلس الأمناء بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والجمعية الإسلامية العالمية للصحة النفسية، وهو العالِم الذي أشرف على مجلة التبيان من 1994 إلى وفاته، وهو العالِم الذي حققت معه الجمعية الشرعية فوزًا غاليًا بجائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام عام 2009.
رحم الله الإمام الجليل محمد المختار المهدي، فهو مثالٌ للعالِم الذي عاش في علمه، وعاش معه الناس فيه، وقد روى الدارمي عن أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ أنه قال: «الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ؛ فَرَجُلٌ عَاشَ فِي عِلْمِهِ، وَعَاشَ مَعَهُ النَّاسُ فِيهِ، وَرَجُلٌ عَاشَ فِي عِلْمِهِ، وَلَمْ يَعِشْ مَعَهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَرَجُلٌ عَاشَ النَّاسُ فِي عِلْمِهِ، وَكَانَ وَبَالًا عَلَيْهِ». وهو مثالٌ كذلك للعالِم الكامل؛ فقد روى الدارمي -أيضًا- عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: "الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ بِاللَّهِ يَخْشَى اللَّهَ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاللَّهِ عَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ يَخْشَى اللَّهَ، فَذَاكَ الْعَالِمُ الْكَامِلُ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللَّهِ لَا يَخْشَى اللَّهَ، فَذَلِكَ الْعَالِمُ الْفَاجِرُ".
ونسأل الله أن يتغمَّد فقيد الأمة برحمته، وأن يجعله من السابقين المقربين، وأن يجعله في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يعوِّض الأمة خيرًا، فإنه -سبحانه- ولي ذلك والقادر عليه.
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- قصة المـَثَل العربي الشهير .. «سَبَقَ السَّيْفُ العَذَلَ»
- خريطة بأسماء وأماكن مدن الأندلس القديمة
- لماذا أحب العلماء الوقف الإسلامي؟
- حوار الصحابي ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس .. مشهد من ماضٍ مجيد
- نص خطاب جعفر بن أبي طالب مع النجاشي ملك الحبشة
التعليقات
إرسال تعليقك