ملخص المقال
للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في القرآن والسُّنَّة أسماء كثيرة، ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، فما المقصود بذلك؟
للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في القرآن والسُّنَّة أسماء كثيرة، اختصَّه الله بها دون غيره، وأسماءه صلى الله عليه وسلم الله تعالى هو الذي أوحى إليه بها، أو ذكرها سبحانه وتعالى في الكتب السماويَّة. ومن أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم: نبيُّ الرحمة: وهو الاسم التالي في الشهرة لأسماء محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب والخاتم والمقفي ونبي التوبة.
الرحمة من أبرز صفات النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ونشير إلى بعض الأمور التي من أجلها صار مناسبًا أن تُنْتَقى الرحمة من بين كلِّ الأخلاق ليُتَّخَذ منها اسمٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
1. قَصْرُ اللهِ تعالى هدف رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم على الرحمة بالعالمين في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، فإذا كان هذا هو هدف الرسالة الأساس، فمن المنطقي والمناسب أن يكون رسولها هو نبيُّ الرحمة، ويؤكِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى في حديثٍ له؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»[1]
2. ليس هدف الرسالة فقط هو تحقيق الرحمة بالعالمين إنَّما كان ذلك هو هدف خَلْقِ الإنسان من البداية. قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ` إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119]. ومع أنَّ العلماء مختلفون حول المقصود من علَّة الخلْق في قوله تعالى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، فبعضهم يجعل المقصود هو الاختلاف ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، وبعضهم يجعله الرحمة ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾، إلَّا أنَّني أميل إلى أنَّه الرحمة، وهذا هو قول ابن عباس رضي الله عنهما: «لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ لِلْعَذَابِ»[2].
3. وهذا في الواقع يتَّفق مع روح الشريعة، ويتناسق مع الآيات والأحاديث الكثيرة في هذا المجال؛ فالله عز وجل يقول: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ` يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 27، 28]، ويقول: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[3]. فالرحمة هي الاتِّجاه العام للشريعة، ولذا تحتَّم أن يكون الرسولُ الحامل لهذه الرسالة هو نبيُّ الرحمة.
4. يُعتبر وصف «نبيِّ الرحمة» مناسبًا جدًّا لوصف حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لشموليَّة هذا الخُلُق في مفهومه صلى الله عليه وسلم. فرحمته ليست في اتِّجاهٍ دون غيره، ولم تكن تُعْنَى بقومٍ وتستثني آخرين؛ إنَّما كانت شاملةً بمعنى الكلمة. كانت رحمته صلى الله عليه وسلم تشمل المسلمين وغير المسلمين، والرجال والنساء، والكبار والصغار، ومَن يعرف ومَنْ لا يعرف، والطائعين لله والعاصين له، بل كانت تشمل الحيوان والطير، حتى وصلت إلى شمول النمل والهوام! ثم إنَّها -أيضًا- رحمةٌ ممتدَّةٌ إلى يوم القيامة، ولها مظاهر عدَّة في ذلك اليوم الطويل. لا بدَّ للنبيِّ الذي يتعامل بهذه الصورة أن يكون نبيَّ الرحمة!
5. كان من الواضح -أيضًا- في نهج الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يُرَجِّح جانب الرحمة عند الاختيار بين أمرين، وكان اجتهاده دومًا يتَّجه نحو التيسير. قالت عائشة رضي الله عنها: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلهِ بِهَا»[4]. ووصل الأمر إلى أنَّه إذا خُيِّر بين الإطالة في الصلاة، وهي قرَّة عينه، وبين الرحمة بأمٍّ يبكي طفلها، اختار الرحمة بالأمِّ واختصر صلاته! فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»[5]! كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهذا النهج يستحقُّ بلا جدال اسم «نبيِّ الرحمة».
6. أيضًا إذا نظرنا إلى مواقف عتاب ربِّ العالمين للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في السيرة النبويَّة، لوجدنا أنَّها في معظمها كانت ناتجةً عن «فرط» رحمته صلى الله عليه وسلم لا عن شدَّةٍ أو قسوة، وقد تناولنا هذه النقطة في الفصل السابق فلْيُرْجَع إليها هناك. هذا من جديد يجعل هذا النبيَّ العظيم صلى الله عليه وسلم نبيَّ الرحمة.
7. لكلِّ ما سبق وَصَفَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بالتيسير، والشفقة، والرأفة، والرحمة، فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، وهذا يدعم بقوَّة أن تكون الرحمة هي الخُلُقُ الأساس الذي يوصف به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم[6].
[1] مسلم: كتاب البر والآداب والصلة، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها (87).
[2] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 4/362.
[3] مسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2752)، وأحمد (9607).
[4] البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ (3367)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب مباعدته ﷺ للآثام (2327).
[5] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي (675)، وأبو داود (789)، وابن ماجه (991)، وأحمد (22655).
[6] انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص74- 76.
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- قصة المـَثَل العربي الشهير .. «سَبَقَ السَّيْفُ العَذَلَ»
- خريطة بأسماء وأماكن مدن الأندلس القديمة
- لماذا أحب العلماء الوقف الإسلامي؟
- حوار الصحابي ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس .. مشهد من ماضٍ مجيد
- نص خطاب جعفر بن أبي طالب مع النجاشي ملك الحبشة
التعليقات
إرسال تعليقك