ملخص المقال
الكوفة.. العاصمة الثانية للمسلمين ومدرسة العلم الأولى
أول عاصمة خارج الجزيرة العربية
تُعَدُّ مدينة الكوفة العراقية أوَّل عاصمة إسلامية خارج الجزيرة العربية بعد أن نقل إليها الخليفة الراشدي علي بن أبى طالب رضي الله عنه مقرَّ الحكم من المدينة المنورة، وكان هذا الإجراء ضروريًّا لمتابعة ما يجري في الأراضي التي فتحها المسلمون عن قرب ولتوطيد الإسلام بها.
جاء تأسيس الكوفة لسببين رئيسين:
الأوَّل: سبب عسكري؛ وهو توغُّل العرب في فتوحاتهم إلى مناطق واسعة خارج صحرائهم فأبعدتهم عن عاصمة الخلافة المدينة المنورة؛ ولذا بات الجيش في حاجةٍ إلى مركز إمداد ثابت، وقاعدةٍ حربيَّةٍ تنطلق منها جيوش الفتح.
وهو ما عبَّر عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: "دار هجرة ومنزل جهاد"، والهدف من هذه القاعدة حماية البلاد المفتوحة، وكذلك إمداد أهل المدن بالجيوش اللازمة لحمايتها وهو ما عبَّر عنه عمر رضي الله عنه بقوله "يحرزون ثغورهم، ويمدُّون أهل الأمصار".
الثاني: سبب جغرافي؛ ترتَّب على انتقال الجند العرب من البيئة الصحراوية إلى البيئة السهلية في مناطق الفتوح.
فقد تغيَّرت صحَّة الجند تبعًا لذلك، فتغيَّرت ألوانهم وذبلت أجسامهم؛ لذا رأى العرب أن تكون قواعد جيوشهم في منطقة صحية، ويبدو أنَّ مسألة القلق على صحَّة الجيش المحارب لم تكن السبب الوحيد الذي دفع عمر رضي الله عنه إلى الأمر بتأسيس الكوفة؛ وإنَّما أضيف له رغبة عمر رضي الله عنه في أن يحفظ للعرب جيشًا محاربًا بعيدًا عن الشعوب المغلوبة وترفها.
أصدر عمر أمره إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما بتأسيس الكوفة بقوله له أن: "يتَّخذ للمسلمين دار هجرةٍ وقيروانًا"؛ يُرابط فيه الجنود مع أسرهم.
وقد بدا لسعدٍ رضي الله عنه في أوَّل الأمر أنَّ المدائن هي المقصودة في قول عمر رضي الله عنه، فأقام فيها ولكنَّ صحَّة جنده ساءت هناك بسبب جوِّها الرطب، فكتب إليه عمر: "إنَّ العرب بمنزلة الإبل، لا يُصلحها إلا ما يُصلح الإبل، فارتد لهم موضعًا عُدتًا، ولا تجعل بيني وبينهم بحرًا".
اختار نفيلة الغساني موضع الكوفة، وهو موضعٌ تتوافر فيه كلُّ الشروط، وقد أشار البلاذري إلى أنَّ هذا المكان كان يُسمَّى "سور ستان" أو "خد العذراء"، كما أنَّ صفاته المناخية حسنة كصفاء الجو وعذوبة النسيم، وبخاصَّةٍ إذا كان شماليًّا أو غربيًّا، بالإضافة إلى أنَّه لا يفصل بينها وبين المدينة المنورة جسرٌ ولا ماء، وهو ممَّا يُسهِّل الاتِّصال بينهما.
الكوفة .. حاضرة العرب والمسلمين
سُمِّيت حاضرة العرب الجديدة بالكوفة، وكوفة لغةً "تجمُّع" فيقال: "تكوَّف الجند"؛ أي اجتمعوا، فهي كوفة الجند… أي مكان تجمُّعهم، كما يقال تكوَّف الرمل أي تجمَّع… وكل رمل يخالطه حصباء يسمى كوفة، وكما يقال: إنَّ القوم في كوفان؛ أي في أمر يجمعهم.
لما استقرَّ العرب في الكوفة، وجد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ حياة الخيام التي يحيونها في معسكرهم لا تُلائم المجتمع الجديد الذي ألفوه؛ ففكَّروا في بناء بيوتهم من القصب والبردي؛ كي تكون ملائمةً وأكثر واقعيَّةً من حياة الخيام، فكتب سعدٌ إلى الخليفة عمر رضي الله عنهما يستأذنه في بناء بيوت الجند من القصب، فأجابهم "إنَّ المعسكر أجدُّ لحربكم، وأذكى لكم، وما أحبُّ أن أخالفكم فابتنوا بالقصب".
من هذا يبدو أنَّ عمر رضي الله عنه لم يكن راغبًا في سكنى العرب في المدن، واتِّخاذهم بيوتًا؛ لأنَّ هذا يُبعدهم عن الخشونة، وكان يرى أنَّ حياة المعسكرات بما فيها من شظف العيش أكثر ملاءمةً لهم، ولكن نمط البناء من القصب والبردي لم يثبت أمام الظروف الطبيعيَّة وعاديات الزمن؛ فقد وقع في هذه المدينة الناشئة حريقٌ دمَّر ثمانين عريشًا، ولم يُبق فيها قصبة.
فحتَّم هذا الوضع على أهلها أن يُفكِّروا في بناء بيوتهم من اللبن والطين، حتى تكون أكثر ملائمةً واستقرارًا وثباتًا من بيوت القصب أمام تحدِّيَّات الطبيعة والزمن.
ويبدو أنَّ سعد رضي الله عنه خشي معارضة الخليفة، وأدرك أنَّ معارضته في هذه المرَّة ستكون أشد، فلم يكتب له كما فعل في المرة السابقة؛ وإنَّما بعث إليه وفدًا منهم، يُخبره بالحادث الأليم ويستأذنه في هذه الخطوة الجريئة.
ومرَّة أخرى رأى عمر رضي الله عنه أنَّ في هذه الخطوة خطرًا على الجيش المقاتل، وربَّما من ورائها نعومة مترفة تُهدِّد الحياة الخشنة التي يجب أن يظلَّ الجيش عليها، ولكنَّ التيار كان جارفًا، وليس من الحكمة معارضته، فسمح لهم الخليفة ولكن بشروط رأى أنها تحفظهم من الانجراف في الترف..
فقال لهم : (افعلوا، ولا يزيد أحدكم على ثلاثة بيوت، ولا تطاولوا في البنيان، والزَمُوا السنة تلزمكم الدولة).
تخطيط الكوفة
هكذا صارت الكوفة ترسم طريقها نحو المدينة الحضريَّة خطوةً خطوة، وكان المسجد أوَّل ما أقامه سعدٌ رضي الله عنه من المنشآت على هذه الأرض الجديدة.
ثم بنى دار الإمارة وبيت المال، وخططت المنهج من حول المسجد الجامع ووزعت على القبائل، وبنت كلُّ قبيلةٍ في منهجها مسجدًا للصلوات الخمس، ومن هذه المساجد بنت كندة مسجد الأشعث، وبنت تميم مسجد بني عبد الله، وبنت طي مسجد عدي بن حاتم، وبنت هوازن مسجد بني عدي، وبنت مذحج مسجد بني أود، وبنت عبس مسجد بني جذيمة، وبنت جهينة مسجد بني دهمان، وبنت عامر مسجد بني هلال. وإذا كثر عدد بطون القبيلة الواحدة وكان لها أكثر من منهاج في المدينة تعدَّدت مساجدها كقبيلة كندة التي ذكر الكلبي 14 مسجدًا ينتمون إليها.
تطور بناء الكوفة
بدأ تطوُّر الكوفة نحو الحياة المدنية في إمارة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه سنة 22هـ، فأدخل الآجر لأوَّل مرَّةٍ وبشكلٍ محدود في بناء بعض الدور فيها، وأول تلك المساكن بنيت في محلة كثرة. ويبدو أن تطور الكوفة وصل إلى ذروته في إمارة زياد بن أبي سفيان في سنة 50هـ؛ فقد أصبح الآجر في عهد هذا الأمير هو المادَّة الرئيسة المستعملة في البناء، فأخذ المسلمون يُشيِّدون دورهم به، في حين أعاد زياد بناء المسجد وزاد فيه، كما أعاد بناء دار الإمارة.
الكوفة .. مدرسة العلم الأولى
انتقل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الكوفة وهو ما ترك أثره تاريخيًّا وعمرانيًّا عليها؛ حيث أُحيطت بخندقٍ لحمايتها، كما تركَّز فيها أنصار الإمام عليٍّ رضي الله عنه، وصارت منذ ذلك الحين إحدى مدارس العلم الشهيرة في العالم الإسلامي.
ففي الكوفة أمر عليٌّ أبا الأسود الدؤلي رضي الله عنهما بوضع قواعد النحو، وقامت في الكوفة -منذ ذلك الحين- مدرسةٌ في علوم اللغة، أصبحت بعد ذلك في منافسة منهجية بينها وبين مدرسة البصرة وتزعما كلاهما فقه النحو وعلوم اللغة وأصولها.
وكان لأهل الكوفة عبر عصور التاريخ باعٌ طويلٌ في الفقه، كما برع من أهلها جابر بن حيان في الكيمياء، وما زال عصر الخليفة الراشد عليٌّ رضي الله عنه يُلقي بظلاله على المدينة حيث بقايا منزله، وهو منزلٌ أبيض صغير على مقربةٍ من بقايا دار الإمارة، وما زالت البئر التي وسط الدار تضخُّ ماءها إلى اليوم، وما زال المكان الذي غُسِّل فيه بعد استشهاده قائمًا، وما زال أهل الكوفة اليوم يتذكَّرون أيَّامه بها.
ظلَّ أهل الكوفة في عناءٍ شديد بسبب موقفهم من الأمويِّين إلى أن جاءت الدولة العباسية وأقام بها العباس، وأسَّس أبو جعفر المنصور ضاحية الهاشمية لتكون مقرًّا لحكم العباسيين، وذلك قبل تأسيس بغداد، غير أنَّ الثورات عليه أدَّت إلى تأسيسه لبغداد، وأسَّس هارون الرشيد قبَّةً على الخليفة الراشد عليٍّ رضي الله عنه، وعُرِف المكان باسم المشهد وصار مزارًا منذ ذلك اليوم.
الكوفة .. تاريخ ما زالت آثاره شاهدة على العظمة
وتجري حفائر أثرية في بقايا الكوفة القديمة أدَّت إلى الكشف عن بقايا دار الإمارة التي بناها زياد سنة 50 هجرية.
كما أفادت هذه الحفائر في التعرُّف على التاريخ العمراني للمدينة، وإنْ كان لا يزال أمام الأثريِّين الكثير في هذه المدينة لكي يستطيعوا الفصل في نموِّها العمراني والحضري، خاصَّةً أنَّ الكوفة شهدت العديد من الإضافات والابتكارات في العصور الإسلامية المختلفة؛ كالسوق الذي بناه خالد القسري والي المدينة الأموي.
فقد شيَّد خالد أوَّل أسواقٍ مبنيَّةٍ ومنظَّمةٍ في الإسلام، ذكر ذلك اليعقوبي حيث قال: "إنَّه بنى الأسواق وجعل لأهل كلِّ بياعةٍ دارًا وطاقًا وجعل غلالها للجند".
وهذا يعني أنَّ مشروع خالد كان مشروعًا تنمويًّا لاقتصاد المدينة؛ وليسدَّ جانبًا من نفقات الدولة على جيشها. ويُضيف البلاذري عن هذا المشروع الرائد آنذاك فيقول: "وبنى خالد حوانيت أنشأها وجعل سقوفها أزاجًا معقودة بالآجر والجص".
هذه الأسواق عرفت التخصُّص في توزيع الحرف عليها وأنماط الأسواق، وقد وصلنا بعض أسماء أهل الصناعات والتجارات بها، حيث كانت في الوقت نفسه مكانًا للحرف الصناعية، ومن ذلك أصحاب الأنماط وهم صُنَّاع السجاد، والصاغة، وأصحاب الخز أي صناعة الحرير، والحناطون، والزياتون… إلخ.
وقد تبقى من عالم الكوفة القديمة القنطرة التي كان يعبر عليها أهلها خندق المدينة.
تلك هي الكوفة وذلك كان جانبًا من سيرتها، وهي سيرة مدينةٍ أسَّسها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنهم أجمعين- تحت رعاية ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
المصدر: إسلام أون لاين (بتصرف).
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- بالصور | أغرب 9 اكتشافات أثرية في تاريخ البشرية
- حوار الصحابي ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس .. مشهد من ماضٍ مجيد
- حقيقة عيسى العوام وأكذوبة فيلم صلاح الدين
- ألقاب أم المؤمنين عائشة
- قصة ساعة هارون الرشيد التي أثارت الجدل في مونديال قطر
التعليقات
إرسال تعليقك