ملخص المقال
لكل منا أمنية ورسالة يسعى لتحقيقها، وهذه الأمنية تختلف باختلاف هِمم الرجال؛ فهناك من تكون أمنيته دنيوية وآخر أخروية وآخر كلاهما.. فيكدُّ لتحقيقها ليل
لكل منَّا أمنية .. دنيا أم آخرة أم كلاهما!
لكلٍّ منا أمنيةٌ ورسالة يسعى لتحقيقها، وهذه الأمنية تختلف باختلاف هِمم الرجال؛ فهناك مَنْ تكون أمنيته الحصول على منصبٍ رفيع بأية طريقةٍ كانت، فيكدُّ لتحقيقها ليل نهار؛ فالقائد أبو مسلم الخراساني -على سبيل المثال- استطاع بهمَّته العالية تحقيق ما يصبو إليه، فأصبح قائدًا لجيوش العباسيين، لكنَّه قُتِل سنة 137هـ بأمرٍ من صاحب دعوتهم "المنصور"، التي أفنى لأجلها جُلَّ عمره.
وسعى الشاعر أبو الطيب المتنبي سعيًا حثيثًا ليتولَّى إمرة إحدى المدن، سواءٌ أكان ذلك بالتقرُّب من سيف الدولة الحمداني بحلب، أم بالتقرُّب من كافور الإخشيدي بمصر، ولكن ذهب سعيه أدراج الرياح؛ فخرج من مصر مغاضبًا يوم عرفة سنة 350هـ، وهو يقول: «عيد بأية حالٍ عدت يا عيد؟»، ثم في سنة 354هـ قُتل بـ "دَير العَاقُول" بالعراق ومعه ابنه مُحسَّد، لكنَّ شعره المفعم بالحكمة باقٍ.
ومن الناس مَنْ تكون بُغيته الآخرة، كأغلب الزُّهاد والعُبَّاد المخلصين؛ فأبو عبد الله سفيان الثوري رحمه الله المتوفى سنة 161هـ أقبلت عليه الدنيا، فصرف وجهَه عنها، فكان يفرُّ من المناصب فرار الشاة من الذئب، بل دفن كتبه قبل موته؛ خشية الرياء والسمعة.
ولا غرو، فتلميذه سفيان بن عُيَيْنَة قال للإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله: «لن ترى بعينيك مثلَ سفيان الثَّورِي حتى تموت»، بل قال عنه معاصره وصديقه أبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي رحمه الله: «لو قِيَل لي: اخترْ لهذه الأمة رجلًا يقوم فيها بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه، لاخترتُ لهم سُفيان الثَّوري».
وهناك صِنفٌ آخر من الناس جمعت أمنيته بين الدنيا والآخرة، كنبيِّ الله سليمان عليه السلام؛ فقد قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35].
وعمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي تطلَّع إلى إمارة المدينة المنورة، فوليها سنة 87هـ وهو ابن خمسٍ وعشرين سنةً، ثم تطلَّع إلى الخلافة فحازها هي أيضًا، ثم تاقت نفسه إلى الجنة، وهذا ما نرجوه له.
مؤرخ بغداد والثلاث أمنيات
وأبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، المشهور بـ الخطيب البغدادي (392-463هـ)، دارقطني عصره، "أحفظ أهل عصره على الإطلاق"، من هذا الصِّنف الأخير؛ فقد حجَّ سنة 445هـ، وشرب من ماء زمزم ثلاث شَرْبَات..
وقال ابن الساعي إنَّه سأل اللهَ ثلاثَ حاجات، اثنتان منهما دنيويَّتان نافعتان؛ الأولى: أن يعود من الحج إلى بغداد وأمه على قيد الحياة، وكان قد تركها على فراش الموت..
والثانية: أن يُؤذَن له أن يُحدِّث بكتابه العظيم "تاريخ مدينة السلام" (الذي لم يُضاهِه في إخلاص رجلٍ لمسقط رأسه إلا كتاب "المواعظ والاعتبار" لـ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ) عن خِطط القاهرة) في جامع المنصور بدار الخلافة، وهو أهم جوامع بغداد قاطبة، والتدريس فيه كان أمنية كثيرٍ من العلماء والفقهاء.
أمَّا الدعوة الثالثة والأخيرة: فهي أخرويَّةٌ بحتة، وهي أن يُدفن بعد موته بجوار العابد بِشر بن الحارث الحافي المتوفى سنة (227هـ)، بمقبرة باب حَرْب بالجانب الغربي من بغداد.
عجائب المنان في إجابة الدعاء والآمال
وحيثُ إنَّه كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ" [1]، أُجيبت دعواته الثلاث؛ فقد عاد إلى بغداد قبل موت أمه ثم ماتت بعد ذلك بأيام..
وأمَّا أمر تحديثه بتاريخه في جامع المنصور، فهذا أمرٌ لم يتأتَ بسهولة، فأنَّى له الوصول لجامعٍ يصلي فيه الخليفة ورجال بلاطه، ولا تُعقد فيه حِلق العلم إلا لمن ارتضى.
وفي هذا الأمر بعضٌ من الشبه مع قصة يوسف عليه السلام؛ فيوسف سُجن بضعَ سنين، وعندما أراد الله إخراجه من ظلمات السجن، أرى ملك مصر تلك الرؤيا المشهورة، فعجز ملأه المتخصِّصون عن تأويلها، ولم يستطعْ تأويلها إلَّا الكريم يوسف، ثم بعدها ذاع صيته وعلا كعبه بمصر.
أمَّا الخطيب البغدادي فالرجل كان حتى تلك اللحظة من العلماء غير المقرَّبين لدى قصر الخليفة، ولكن حدث أمرٌ وكأنَّ الله هيَّأ أسبابه ليبزغ في السماء نَجم هذا العالِم..
فقد ادَّعى قومٌ من اليهود في عهد الخليفة القائم بأمر الله (422-467هـ) أنَّ لديهم كتابًا يرجع لعهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ لهم فيه بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وذكروا أنَّه بخطِّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه شهادة جماعةٍ من الصحابة..
فقدَّمه الخليفة القائم إلى الوزير أبي القاسم علي بن المسلمة المشهور برئيس الرؤساء (ت 450هـ)، وقال له: "تعرَّف صحَّة ذلك"، فأراه جماعةً من أهل العلم، فلم يعلموا حقيقة الحال فيه، وعجزوا عن حلِّ هذا اللغز..
فأشار أحدهم –كإشارة الغلام إلى يوسف الصِّدِّيق عليه السلام– بأنَّ أحمد بن ثابت محنَّكٌ في فنِّ التاريخ، فأرسل إليه الوزير، وأحضره وأراه الكتاب..
فنظر فيه فقال: "هذا مُزوَّر على رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقِيَل له: كيف عرفت ذلك؟ فقال: "لأنَّ فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وتاريخ الشهادة وفتح خيبر سنة سبع، ومعاوية لم يكنْ أسلم في تلك السنة، بل أسلم عام الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو كان قد مات يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين".
فاستحسن الوزير ذلك منه، فاغتنم الخطيب حينئذٍ الفرصة، وسأل أن يُؤذَن له في قراءة تاريخه بجامع المنصور فأذن له، فرواه كلَّه في الجامع.
لا شَكَّ أنَّ هذه الدِّقَّة صُقِلَت من كثرة مطالعة الخطيب لكتب التاريخ والسِّيَر؛ فقد كان يمشي وفي يده جزءٌ يُطالعه.
الأمنية الأخيرة
بقيت أمنيته الأخيرة والأهم، وهي أن يُدفن إلى جنب قبر بشر الحافي؛ ذكر الذهبي رحمه الله أنَّ الشيخ أبا بكر بن زهراء الصوفيِّ كان قد أعدَّ لنفسه قبرًا إلى جانب قبر بشر الحافي، وكان يمضي إليه كلَّ أسبوعٍ مرَّة، وينام فيه، ويتلو فيه القرآن كلَّه، فلمَّا مات الخطيب البغدادي، وكان قد أوصى أن يُدفن إلى جنب بشر الحافي، فجاء أصحابه إلى ابن زهراء، وسألوه أن يدفنوا الخطيب في قبره، وأن يُؤثِره به، فامتنع، وقال: موضعٌ قد أعددته لنفسي يُؤخذ مني!
فجاءوا إلى شيخ الشيوخ أبي سعد أحمد النيسابوري (ت 479هـ)، وذكروا له ذلك، فأحضر ابن زهراء، وقال له: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول لك: لو أنَّ بشرًا الحافي في الأحياء وأنت إلى جانبه، فجاء أبو بكر الخطيب ليقعد دونك، أكان يَحسُن بك أن تقعد أعلى منه؟ قال: لا، بل كنتُ أُجلسه مكاني. قال: فهكذا ينبغي أن تكون الساعة. فطاب قلب ابن زهراء، وأذن لهم، فدفنوه في ذلك القبر.
وهكذا، تحقَّقت أمنية الخطيب الثالثة، فدُفِن بجوار الزاهد بشر الحافي في ثامن ذي الحجة سنة 463هـ، وكان بين يدي جنازته جماعةٌ يُنادون: «هذا الذي كان يَذبُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم الكذب».
[1] سنن ابن ماجه: كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم (3062)، وقال الشيخ الألباني: صحيح. ومسند أحمد (14892)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث محتمل للتحسين.
المصدر: إسلام أون لاين (بتصرف).
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- ابن سندر.. وصية رسول الله
- معركة القادسية وانتصار المسلمين على الفرس
- شكل سيدنا موسى عليه السلام كما رآه النبي في الإسراء والمعراج
- حوار الصحابي ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس .. مشهد من ماضٍ مجيد
- ما هو طاعون عمواس؟
- صور ربما لم ترها من قبل لأبي الهول و الأهرامات
- قصة ميلاد عيسى ابن مريم عليه السلام
- تاريخ الوطن العربي خلال 14 قرنا
- شكل سيدنا موسى عليه السلام كما رآه النبي في الإسراء والمعراج
- قصة نهاية آخر خليفة عباسي
- اعرف نبيك .. 7 كتب لا غنى عنها في السيرة النبوية
- قصة آل عمران .. العائلة التي كرَّمها الله في القرآن الكريم
- حوار الصحابي ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس .. مشهد من ماضٍ مجيد
- نص خطاب جعفر بن أبي طالب مع النجاشي ملك الحبشة
- أول معركة في التاريخ بين سفينتين بخاريتين .. المصرية «براوز بحري» والروسية «فلادمير»
التعليقات
إرسال تعليقك