ملخص المقال
تعرف على قصة الميناء الذي أبحر خلاله التاريخ .. القرن الذهبي في إسطنبول..
منذ آلاف السنين كان القرن الذهبي في إسطنبول مصدر جذبٍ للإمبراطوريات العظمى في العالم، والحكام اللامعين، وصائدي الكنوز، والفنانين، حتى بعض آلهة اليونانيين!
القرن الذهبي في إسطنبول -أو كما يسمى بالتركية "هاليتش" أي "خليج"- هو واحدٌ من أكبر الموانئ الطبيعية في العالم، يمتدُّ لأكثر من 7.5 كيلومترًا طولًا، مخترقًا إسطنبول على الجانب الأوروبي عند التقاء مضيق البوسفور مع بحر مرمرة.
وتصب في الخليج -الذي يشطر القسم الأقدم من إسطنبول إلى نصفين- مياه فيضان أودية "علي بك" و"كاغد خانه"، وهو يُحدِّد الآن مركز المدينة القديمة داخل شبه الجزيرة الذي يحوي قصر توبكابي وآيا صوفيا والبازار الكبير وغيرها من المعالم الشهيرة.
وقد بقيت هذه المنطقة بمثابة الميناء الرئيس للمدينة لعدَّة قرون، كما كانت في الماضي مركزًا للشحن والتجارة والدفاع للعديد من الإمبراطوريات الكبرى، بما في ذلك الإمبراطوريتين؛ البيزنطية والعثمانية.
القرن الذهبي .. حصن إسطنبول البحري
كان الحفاظ على مدخل الميناء في الماضي أمرًا شديد الأهمية، لأنه ركن أساسي من أركان التجارة ويمثل في الوقت ذاته قاعدة عسكرية استراتيجية.
فبعد أن أعلن "قسطنطين العظيم" مدينة القسطنطينية عاصمةً للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع، أسَّس المقرَّ الرئيس للبحرية الإمبراطورية على هذا الميناء الشهير، وبنى ما يقرب من 20 كيلومترًا من الأسوار المزدوجة على طول الشاطئ لدرء الهجمات المعادية عليه، ممَّا جعله شبه منيع بالكامل.
ولحماية الممر المائي نفسه استُخدمت سلسلة حديدية عائمة ضخمة عند مدخل الميناء بطول 480 مترًا تقريبًا لعرقلة مرور سفن العدو.
ولا يُعرف كم مرَّة استُخدمت فيها هذه السلسلة حقيقةً، فالأمر ظلَّ لغزًا، مع الإشارة إلى أنَّ الوثائق التاريخيَّة سجَّلت استخدامها في أربع حالات خلال الحصار في الأعوام 821 و969 و1203 و1453م.
هجمات متلاحقة عبر التاريخ
خلال ما يزيد عن 900 سنة من الحكم البيزنطي للمدينة، لم تُكسر السلسلة الدفاعيَّة في القرن الذهبي سوى ثلاث مرات؛ الأولى في القرن العاشر عندما نجح مقاتلون من إمارة روسيا الكييفية (Kievan Rus) في إخراج قواربهم من البوسفور والالتفاف معها حول برج "غلاطة"، ومِنْ ثَمَّ إنزالها في مياه القرن الذهبي من جديد.
ثم في عام 1204م خلال الحملة الصليبية الرابعة عندما تمكَّنت سفن البندقية من كسر السلسلة عند النقطة التي رست فيها بالقرب من برج "غلاطة"، أمَّا المرة الثالثة والأخيرة فكانت أثناء فتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الثاني "الفاتح" عام 1453م، وذلك بعد محاولات كسر السلسلة؛ فقد سحب سفنه عبر الضفة الشمالية باستخدام ألواح خشبية مدهونة بالزيت لتسهيل انزلاق السفن فوقها، وقد تمكَّن بفضل ذلك من فتح المدينة إلى الأبد.
لقد كان هناك أكثر من سلسلةٍ على مرِّ القرون، أمَّا السلسلة التي تغلَّب عليها السلطان العثماني محمد الثاني الذي كان عمره وقتها 21 عامًا أو أقل حسب الروايات المختلفة، فكانت تتألَّف من حلقات من الحديد المطاوع طول الواحدة منها قدمين، مع خطافات لإرفاق ألواح خشبية للطفو، فقد كانت السلسلة فريدة ومميزة.
فقد سمح هذا التصميم لها أن تكون مرنة وقويَّة بما يكفي لاقتناص السفن التي تُحاول المرور، وأيضًا لإكساب البيزنطيين الوقت لشنِّ هجمات متزامنة من الشاطئ على الزوارق التي تنتظر خلف الحاجز المرتبط بها مباشرة.
وتعرض اليوم قطع من هذه السلسلة في عدَّة متاحف في إسطنبول، ولكنَّ الجزء الأكبر منها يقع في المتحف العسكري في حي "شيشلي" في المدينة.
سبب تسمية "القرن الذهبي"
أثار جذر كلمة "ذهبي" في التسمية الأوروبية للميناء باسم "القرن الذهبي" جدلًا واسعًا لسنوات، وبوسعنا البدء بحثًا عن أساس التسمية من الأسطورة اليونانية التي تروي نشأة مدينة إسطنبول وبداية تأسيسها، ومن أول تسمية معروفة للميناء.
تقول الأسطورة: إنَّ ملك الآلهة "زيوس" وقع في حبِّ بشريَّةٍ تُدعى "إيو"، ولإنقاذها وابنتهما التي لم تولد بعد من غضب الملكة "هيرا" وغيرتها، حوَّل زيوس محبوبته "إيو" إلى بقرةٍ بيضاء، وبسبب اضطهاد هيرا وتعذيبها لها، اضطرَّت البقرة "إيو" للتجوُّل في مراعي الأبقار والثيران، وفي نهاية المطاف عبرت مضيق البوسفور وهو الاسم الذي يعني حرفيا "ممر الثور"، وبعد أن استعادت "إيو" شكلها الأصلي، أنجبت ابنتها "كيريوسا"، التي تزوَّجت فيما بعد بإله البحار "بوسيدون" وأنجبت منه ابنها "بايزاس ماغيريان" (Byzas the Magerian).
أصبح "بايزاس" مؤسس الدولة البيزنطية -أول مستوطنة معروفة على البوسفور- في القرن السابع قبل الميلاد، واتَّخذ القرن الذهبي اسم "غريسوكيراس" (Chrysokeras) التي اشتقت منها كلمة "غريسوبالاس" (chrysopalae) التي تعني في اليونانية "البوابة الذهبية".
ومن المثير للاهتمام أنَّه اكتشفت مؤخَّرًا أثناء بناء محطة مترو "يني كابي" ونفق "مرمراي" في إسطنبول، بقايا موانئ قديمة ومخازن وأساطيل سفن تجارية يعود تاريخها إلى 6700 قبل الميلاد، وهو ما يدعم ما ذكرته الأسطورة من تواريخ.
بعيدًا عن الأساطير، هناك نظريَّة تربط تسمية الميناء مع طريقة غروب الشمس المدهشة على سطح مياهه، ممَّا يجعله يبدو وكأنه سائلٌ ذهبي.
وقد ألهمت هذه الظاهرة الفنانين والشعراء والكتاب على حدٍّ سواء، وجعلت النهاية الشمالية للممر المائي الذي كان يُدعى "ساداباد" -وهو الآن حي "كاغد خانه"- مكانًا شهيرًا ومحبَّبًا للنخبة العثمانية في القرن الثامن عشر، فبنوا في هذا المكان قصورًا، وزرعوا حدائق التوليب الكبيرة على طول شواطئه.
وقد أطلقت الطبقة العليا من المجتمع على هذه الفترة اسم "عصر التوليب"، وعلى النقيض من ذلك، عرف العصر نفسه باسم "عصر الفسوق" من قِبَل الطبقة الدنيا، الذين ألقوا باللوم على النخبة في حبِّ المظاهر المكلِّفة والرفاهية، والسقوط في الرعونة الاقتصادية، والبذخ في الإنفاق غير المدروس، وهو الأمر الذي سبَّب تفكُّك الإمبراطورية العثمانية وسقوطها في نهاية المطاف.
وهناك قصَّةٌ أخرى حول سبب تسمية الميناء، وهي حكايةٌ لا تتعلَّق بانعكاس سطح الماء؛ وإنَّما ما قد يكمن في أعماقه، فتقول الشائعات القديمة: إنَّ الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر عندما شعر أنَّ محمد الثاني سيغزو القسطنطينية لا محالة، حمَّل سفينةً كبيرةً بكنوز الإمبراطورية الهائلة، وقرَّر أن يُغرقها بغمرها بالماء بالقرب من مصبِّ القرن الذهبي ليجعلها في مأمنٍ من أيدي الغزاة.
وتقول بعض القصص: إنَّه كان هناك سبع سفنٍ مماثلة، وقد فقدت حمولة تلك السفن جميعها في البحر، ويدَّعي آخرون أنَّ البيزنطيين ألقوا الكثير من الأشياء الثمينة في الميناء لإبعادها عن أيدي العثمانيين، وهو السبب بأنَّ الماء يتلألأ بالذهب.
لا يوجد دليل تاريخي يدعم أيًّا من هذه الحكايات، لكنَّ القرون التي مرَّت لم تُثْنِ عزيمة صائدي الكنوز الذين لا يزالون ربَّما يبحثون عن الكنز.
المصدر: DAILY SABAH
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- قصة الحلاق الذي تعلم منه أبو حنيفة النعمان .. من روائع القصص
- أسرة محمد علي باشا .. أربعة أنظمة للحكم في قرن ونصف!
- قصة وضع الحجر الأسود
- من قتل قطز ؟
- الحاشر .. سلسلة أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم
التعليقات
إرسال تعليقك