ملخص المقال
تعرف على سر نبوءة المنصور محمد بن أبي عامر والتي سرعان ما تحققت..
بصيرة المنصور النافذة
كان يومًا المنصور محمد بن أبي عامر في قصره بالزاهرة، فتأمَّل محاسنه، ونظر إلى مياهه المطَّرِدَة، وأنصت لطيوره المغرِّدة، وملأ عينه من الذي حواه من حسنٍ وجمال، والتفت للزاهرة من اليمين واليسار، فانحدرت دموعه، وتجهَّم قائلًا: «الويل لكِ يا زاهرة، فليت شعري من الخائن الذي يكون خرابُكِ على يديه عن قريب؟».
فقال له بعض خاصَّته: «ما هذا الكلام الذي ما سمعناه من مولانا قط» فقال: «والله لترون ما قلت، وكأني بمحاسن الزاهرة قد محيت، وبرسومها قد غُيرت، وبمبانيها قد هُدمت، وبخزائنها قد نُهبت، وبساحاتها قد أُضرمت بنار الفتنة وأُلهبت».
فلم يكن إلا أن تُوفِّي المنصور وتولَّى المظفر ولم تطل مدَّته، فقام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن الملقَّب بشنجول، فقام عليه ابن عبد الجبار الملقَّب بالمهدي، وحرض العامَّة وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامَّة، وانقرضت دولة آل عامر ولم يبقى منهم آمر[1].
«الزاهرة» أسرع المدن زوالًا
تحرك محمد بن عبد الجبَّار الملقَّب بالمهدي –والذي أعلن نفسه خليفة وخلع عبد الرحمن شنجول–ومعه العامة في حشود هائلة من أخلاط الناس إلى الزاهرة لأنَّها حصن العامرية المنيع، ومعقلها الأعظم.
وحاول الثوار اقتحام المدينة، ولكنَّ رجال حاميتها ردُّوهم عن أسوارها، وفي صباح اليوم التالي أرسل ابن عبد الجبار ابن عمِّه مع فرقةٍ من رجاله لمخاطبة أهل الزاهرة في الاستسلام، وانضمَّ إليه من العامَّة النهَّابة حشودٌ لا حصر لها ولا عدد.
تدفقت تلك الحشود على المدينة كالسيل الجارف واجتاحوا سورها، فنقبوا فيه ثغراتٍ من جانب باب السباع وباب الجنان، وانتشروا في قصورها ينهبون ما يقع بإيديهم في قاعتها من مال وتحف وروائع وعُدَّة وسلاح وذخائر وفرش وآنية وعدد سلطانية.
حتى اقتلعوا الأبواب الوثيقة الخشب الضخمة، ثم أصدر ابن عبد الجبَّار أمرًا بهدم المدينة، وحط أسوارها، وقلع أبوابها، وطمس آثارها.
فبلغوا من تدمير تلك المدينة الجليلة ما لا يبلغه الدهور المتعاقبة فأصبحت كأن لم تغن بالأمس!
يقول مضاض بن عمرو الجرهمي في وداع الوطن:
وَقَائِلَةٌ وَالَّدْمُعُ سَكْبٌ مُبَادِرُ ** وَقَدْ شَرُقَتْ بِالدَّمْعِ مِنْهَا الْمَحَاجِرُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا *** أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
فَقُلْتُ لَهَا وَالْقَلْبُ مِنِّي كَأَنَّمَا ** يُلَجْلِجُهُ بَيْنَ الْجَنَاحَيْنِ طَائِرُ
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا *** صُرُوفُ الَّلَيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
وخَرِبَت الزاهرة، وذهبت كأمس الدابر، وخلت منها الدسوت الملوكية، والمنابر، واستولى على ما فيها من العدة والذخائر، والسلاح، وتلاشى أمرها فلم يُرج لفسادها صلاح، وصارت قاعًا صفصفًا.
ولقد كانت الزاهرة على حد قول الأستاذ ليفي بروفنسال أكثر المنشآت الخلافية زوالًا؛ إذ لم يكن قد مضى على بنائها أكثر من ثلاثين عامًا، وكان زوالها شاملًا لدرجة أنَّه لم يترك له أثر[2].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] المقري التلمساني: نفح الطيب، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر- بيروت، 1/589.
[2] Évariste Lévi-Provençal: Espagne musulmane au Xe siècle (L')، pp 330- 331.
المصادر:
المقري التلمساني: نفح الطيب.
السيد عبد العزيز سالم: قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس.
الأكثر قراءة اليوم الأسبوع الشهر
- حذار من الفيلة في رمضان!
- وفاة الإمام البخاري
- حدث في 21 رمضان .. استشهاد الشيخ فرحان السعدي
- قصة ساعة هارون الرشيد التي أثارت الجدل في مونديال قطر
- محمد بن أسلم الغافقي .. عبقري طب العيون
التعليقات
إرسال تعليقك